قراءة مختلفة لآية قرآنية من وحي فهم تنزيهي لله، وفي ضوء فهم أوجَه للُّغة للمفكر الدكتور أسامة عكنان

قراءة مختلفة لآية قرآنية من وحي فهم تنزيهي لله، وفي ضوء فهم أوجَه للُّغة للمفكر الدكتور أسامة عكنان

21-09-2025

قراءة مختلفة لآية قرآنية من وحي فهم تنزيهي لله، وفي ضوء فهم أوجَه للُّغة للمفكر الدكتور أسامة عكنان


نحن نستخدم كلمة "لغة" ونقصد بها "اللسان"، فاللغة العربية هي في مقصدنا "اللسان العربي"

استوقفتني الآية "102" من سورة البقرة، وهي الآية التي تتحدث عن السحر:
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴿102﴾
ولأن هذه الآية جاءت في سياق تعتبر فيه شارحة وموضحة للآية التي سبقتها، فإنني أورد أيضا تلك الآية وهي "101"، لكي أحاول تقديم رؤيتي التي تكونت من خلال تأملي لهما:
وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿101﴾
بطبيعة الحال من الضروري ابتداء توضيح أن ما ورثناه من تفاسير لهذه الآية يقوم في الغالب على أساطير وخرافات وأكاذيب "الإسرائيليات" التي تُجْمِع على أن هذا المسمى "سحر" هو ذلك "الشيء"، أو "العلم"، أو "الضلال".. أو.. أو.. إلخ، الذي أنزله الله على ملكين كانا يقيمان في "بابل" بالعراق، هما "هاروت" و"ماروت"، ليعلماه للناس، ولأن هذا المسمى "سحر" سيئ ومُضِل فإن هذين الملكين يخبران من يريد تعلمه منهما بأنه فتنة كي يبرئا ذمتهما أمامه، ولا يتحملا الإثم معه.
أي أن هذه الإسرائيليات تريد أن تقول لنا بكل وضوح: أن الله يُعَلِّمُ البشر "الضلالَ" و"الكفر" ويضعهم في دوائر "الفتنة" المعرفية والسلوكية، ومن خلال ملائكة أطهار، وكل ما يفعله أنه يأمر ملائكته بأن ينبهوا الناس إلى أن ما سيتعلمونه هو فتنة وكفر، وينصحونه بألا يتعلمه!!
ونحن المسلمون مع بالغ الأسف نقر بهذا التفسير "المهين" للآية القرآنية الكريمة، ونتبنى هذا التصور "المَسْخَرَة" في حق الله سبحانه وتعالى عما يصفون علوا كبيرا، لا بل إن كبار المفسرين الذي ننهل فهم القرآن منهم هم الذين يملأون عقولنا بهذه المعاني!!
ولكن دعونا نحاول إعادة قراءة هذه الآية الكريمة بشكل أكثر عقلانية وانسجاما مع اللغة ومع طبيعة فهمنا لله عز وجل، في ضوء أنها – أي الآية 102 – جاءت في سياق استكمال ما ورد في الآية التي سبقتها "101"!!
ففي سياق حديثه عن "بني إسرائيل" أو "اليهود" في "المدينة"، وانتقاد موقفهم من دعوة الرسول عليه السلام، يقول الله عز وجل:
"وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ"، ثم يكمل موضحا ما الذي راحوا يفعلونه بدل أن يؤمنوا بما جاءهم ويتبعوه قائلا:
"وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ".
أي أن الله يستنكر عليهم فعلهم لما ورد ذكره في هذه الآية، بعد أن انتقدهم بسبب ما يفعلونه بحسب ما ورد في الآية التي سبقتها. أي أنهم بدل أن "يؤمنوا ويتبعوا" كما ورد في "101"، راحوا يكذبون ويجادلون ويفترون.. إلخ" كما ورد في "102". وهو ما يعني أن الآية "102" أصلا، إنما جاءت برمتها وبمجمل ما فيها في سياق استنكاري، إداني، توبيخي، بوصف هذا الذي جاء فيها هو من افتراءات وأكاذيب بني إسرائيل على الله وأنبيائه وملائكته، والتي يفترض أن الآية تولت تفنيدها ونقدها.. إلخ.
ففي هذه الآية تفنيد لمقولة "إسرائيلية" كان اليهود يتحدثون بها ويواجهون بها الرسول عليه السلام، فيها كذب على الله، وعلى نبيه سليمان، وعلى ملائكته.
دعونا نبدأ شرح رؤيتنا بتفكيك الآية وتقطيعها تقطيعا يتناسب مع فهمنا لله وللغة وللسياق القرآني نفسه:
المقطع الأول: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ..
المقطع الثاني: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ..
المقطع الثالث: وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ..
المقطع الرابع: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ..
المقطع الخامس: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ..
المقطع السادس: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ..
المقطع السابع: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ"..
إن التعامل مع هذه الآية وفق التقطيع السابق يختلف جذريا عن التعامل معها وفق التقطيع النمطي التقليدي الموروث في التفسيرات المرتكزة إلى أساطير وخرافات وأكاذيب الإسرائيليات، وهو ما أثار اللبس لدى المفسرين، وأوقعهم في الخطأ الذي جعلهم يأنسون إلى تلك التفسيرات التي تكرس الرواية الإسرائيلية التوراتية المكذوبة على الله.
إن التقطيع الموروث للآية كان على النحو التالي:
المقطع الأول: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ..
المقطع الثاني: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ..
المقطع الثالث: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ..
أما باقي المقاطع فهي لا تختلف مع تقطيعنا، لأنها لا تؤثر على الفكرة الأساس التي انطوت عليها المقاطع الأولى من الآية، والتي اعتبرناها نحن أربعة مقاطع منفصلة، فيما اعتبرها المفسرون القدماء ثلاثة مقاطع فقط.
لذلك فإننا سنناقش الأمر ونعرض رؤيتنا في ضوء مقارنة في المعاني بين مقتضى المقاطع المختلف فيها بيننا وبين المفسرين القدماء ومن أخذ منهم واعتمد على تفسيراتهم في فهم الآية. وإننا فضلا عن إجراء المقارنة في ضوء اختلاف التقطيع وما سوف يؤدي إليه من اختلاف في المعنى، فإننا سنكتشف أن هناك استخدامات لغوية وقرآنية نختلف فيها معهم، أدت وما كانت إلا لتؤدي إلى الاختلاف في الرؤية وفي التفسير.
فلنتابع:
في المقطع الثاني القديم: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ..
وهو المقطع الذي يأتي عندنا في مقطعين اثنين على النحو التالي:
الأول: وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر..
الثاني: وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ..
ولذلك فقد أخذ تفسير المقطع الثاني وفق الرؤية القديمة الوُجهة التالية:
إن سليمان لم يكفر، لأن حكاية أن الشياطين تتلو على ملك سليمان هي مجرد فرية وكذبة، ولكن الشياطين هم الذين كفروا بتعليمهم السحر وما أنزل على ملكي بابل "هاروت" و"ماروت" للناس..
أما تفسير هذا المقطع عندما أصبح مقطعين في رؤيتنا فهو يأخذ الوُجهة التالية:
إن سليمان لم يكفر، لأن حكاية أن الشياطين تتلو على ملك سليمان هي مجرد فرية وكذبة، ولكن الشياطين هم الذين كفروا لأنهم يعلِّمون الناس السحر.. "المقطع الثاني عندنا"..
وهذا الذي يعلمه الشياطين للناس وهو السحر، لم ينزل به الله أصلا على ملكي بابل المزعومين "هاروت" و"ماروت" فهذه أيضا مجرد فرية.. "المقطع الثالث عندنا"..
فعبارة "وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت"، هي نفي لما كان يدعيه اليهود من أن السحر الذي كان الشياطين يعلمونه للناس بتلاوته على ملك سليمان "نزل به الله على ملكي بابل هاروت وماروت"، وليست لفظة "ما" الواردة للإضافة، فهي هنا لا يمكنها أن تكون إضافة، لأنها لو كانت كذلك، لسقط التفسير القديم أصلا، لأن إضافة ما يفترض أنه أنزل على الملكين إلى السحر الذي يعلمه الشياطين للناس، باعتباره أمرا يعلمونه لهم أيضا، يقتضي قطعا أن يكون أمرا آخر غير السحر، وبالتالي بطل ذلك التفسير أصلا، لذلك فإن الأَوْجَهَ لغةً اعتبار الـ "ما" هي "ما" النافية، وليست "ما" الإضافة.
وفي الحالتين يسقط التفسير القديم أصلا، وتنتفي واقعة أن هناك شيئا اسمه "سحر" أنزله الله على ملكين هما "هاروت" و"ماروت" كانا في بابل.
وهو الأمر الذي ينسجم أيضا مع السياق الذي جاءت فيه الآية بوصفها استكمالا للآية التي سبقتها لجهة تفنيد ونقد أكاذيب أشارت إليها تلك الآية ضمنا من خلال معنى السياق الذي ينطوي على فكرة "بدل أن تؤمنوا بعد أن جاءكم كتاب كمصدق لما بين أيديكم من التوراة رحتم تفترون وتكذبون وتحرفون.. إلخ"، وهو ما تولت الآية "102" توضيحه وتوضيح ضلاله وخطئه.
لننتقل الآن إلى المقطع الرابع عندما وهو المقطع الثالث في التفسير القديم وهو أيضا من أكثر المقاطع إثارة للبس والجدل:
"وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ"..
لقد تسبب ورود تصريف الفعل "يُعَلِّمان" بالمُثنى المذكر، إلى لبس أوجب على المفسرين القدماء إحالته إلى "المَلَكَين" بعد أن تم افتراض أنهما يُعَلِّمان البشر بناء على تفسيرهم للمقطع السابق.
أي أنه كان من الطبيعي أن يتم الزج بهذا التصور المهين في حق الله وملائكته، وهو التصور القائم على إمكان تعليم الفتنة والكفر والضلال للبشر، مع الاكتفاء بتوضيح أن المسألة فتنة وكفر لبراءة الذمة، فيما لا يخرج عن إطار كونه مهزلة عبثية تنزه الله وتعالى عنها علوا كبيرا.
فالله الذي يزخر كتابه الكريم بأنه بيان وتبيان وتفصيل وهدى وشفاء لما في الصدور، وأنه يعرض آياته الناس ويوضحها ويفصلها لكي يؤمنوا، ويخاطب عقولهم وأفئدتهم.. إلخ، يأتينا هنا بما يتناقض مع كل ذلك، ويصور لنا أنه يعلم الكفر والفتنة والضلال والسحر من خلال ملائكته. وكأنه يقول لهم: "انتبهوا، أنا عملت ما يجب عليَّ، وقلت لكم أن هذا الذي ستتعلمونه مني ومن ملائكتي كفر وضلال وفتنة.. إلخ، وأنا هكذا بريء الذمة"، وكأنه ليس إلهاً هاديا مرشدا رحيما حليما رؤوفا، بل كأنه أشبه بتاجر لديه بضاعة يعرضها للبيع، ولأنه نزيه وشفاف يبين للمشترين عيوبَها!!!!!!!!
نعم، إن هذه الكارثة التي جنح إليها تفسير هذا المقطع من الآية، ناتجه ابتداء عن تفسير المقطع السابق من على قاعدة الخرافة الإسرائيلية التي يُفترض أن الآية جاءت لتفنيدها وانتقادها، ليقوم مفسرونا بالإقرار بها، وبحرف باقي الآية عن روحها القرآنية لتنسجم مع التفسير البائس للمقطع السابق، دون أن ندري كيف يمكن لمفسر متمكن أن يفهم أن الله يردُّ ويفنِّدُ وينتقد أمرا ما، فيقوم هو بإقراره كما جاء في الرواية التي أراد الله تفنيدها، ثم يقوم بعد ذلك باختلاق كل التأويلات والتخريجات الممجوجة لباقي الآية كي تنسجم مع هذا التصور الغريب؟!!!
أما وفق رؤيتنا فإن الأمر يختلف ليستقيم مع تصور الحكمة والسمو والعظمة والهداية في الذات الإلهية، ومع تفسيرنا الذي أوردناه للمقطع الثالث عندهم، والذي هو عندنا مقطعان.
فبناء على أن قصة الملكين غير صحيحة، وأنهما لا يُعَلِّمان السحر لأيٍّ كان لأن هذا من فعل الشياطين، فقد كان من الطبيعي أن يتم فهم الآية التي تمثل المقطع الأخير هذا: "وما يُعَلِّمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر.. إلخ"، بطريقة مخالفة وأكثر وجاهة وبلاغة وانسجاما مع كل ما سبق توضيحه في تفسير المقاطع السابقة.
فالمفسرون القدامى وانسجاما مع مقدماتهم افترضوا أن لفظة "ما" في بداية المقطع تقوم مقام "لا"، يعني أن الملكين لا يُعَلِّمان أحدا حتى يخبراه بأنهما يُعَلِّمانه الكفر والضلال والفتنة.. إلخ. بينما نحن نفترض أن هذا المقطع كله عبارة عن سؤال استنكاري تقوم فيه لفظة "ما" مقام "هل"، ليصبح المقطع مصاغا بالمعنى التالي: " وَهل يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ؟".
أي أن الله الذي لم يُنزِل على هذين الملكين شيئا اسمه "السحر" أصلا، يتساءل بصيغة استنكارية مفادها: "وكيف يمكنهما أن يعلما أحدا السحر وكيف لأحد أن يتعلم منهما ما يفرق به بين المرء وزوجه وهما أصلا ما نزل عليها شيئا من ذلك؟!". من مثل صيغة: "ما درستَ حتى تنجحَ في الامتحان"، أي: "وهل درستَ حتى تنجح في الامتحان أصلا؟!".
ففي الوقت الذي يقوم التفسير القديم لهذا المقطع على نسبة تعليم الكفر والضلال والسحر والتسبُّب في الفتنة إلى الله، فإن تفسيرنا وفق مقدماته ومنهجه، يقوم على استنكار الله سبحانه وتعالى لأن يقوم الملكان بأمر كهذا، وهما أصلا لم يكلفا به ولا أُنزِل عليهما شيء من هذا القبيل، لأن المسألة كلها مسألة شياطين، ولا علاقة لله وملائكته وللخير لها من حيث المبدأ، ومن ثم فكل أقوالكم وادعاءاتكم يا معشر يهود مجرد أكاذيب وافتراءات لا أساس لها من الصحة، فبدل أن تؤمنوا بما جاءكم به الرسول، تقومون بإضاعة وقتكم في بث الأكاذيب والخرافات والافتراءات؟!
وخلاصة القول، أن الجزء التالي من الآية 102 من سورة البقرة:
"وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ"..
هو بكامله مجرد جملة معترضة نافية تفصل بين الجزءين التاليين من الآية نفسها:
"وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ"..
"وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ"..
وكأن الآية في الأصل البنيوي اللغوى لمعناها الدلالي هي على النحو التالي:
"وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ، وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ"،
ولكن لحكمة يعلمها الله واتباعا لأسلوب بنيوي دلالي شائع جدا في القرآن الكريم في استخدام الجمل المعترضة الشارحة أو النافية أو المثبتة، جاء بناء الآية على النحو الذي نزل به الوحي الأمين.
هذه هي رؤيتنا التي بدت لنا هذا الصباح من وحي قراءتنا للآية الكريمة "102" من سورة البقرة.
راجين أن ينبهنا أصدقاؤنا القراء إلى ما من شأنه أن يكون قد فاتنا أو غاب عن أذهاننا، فنحن نتأمل ونفكر، ومقصدنا في البداية وفي النهاية أن نصل إلى الفهم الصحيح للخطاب القرآني.
بقلم: أسامة عكنان