المسيح في القرآن: بين حقيقة الشخصية ومسألة الصلب رؤية جديدة

المسيح في القرآن: بين حقيقة الشخصية ومسألة الصلب رؤية جديدة

28-09-2025

المسيح في القرآن: بين حقيقة الشخصية ومسألة الصلب رؤية جديدة

يطرح القرآن الكريم في آية محورية موجهة إلى أهل الكتاب مبدأ "الكلمة السواء" كأساس للحوار بين المسلمين وأتباع الديانات الأخرى، خاصة المسيحيين. يقول تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 64]. تشير هذه الآية إلى أن نقطة الالتقاء والاختلاف المحورية تدور حول شخصية المسيح عيسى ابن مريم، الذي هو "كلمة الله" وروح منه. هذه الورقة تستعرض رؤية متكاملة لطبيعة المسيح وحادثة الصلب كما يمكن استقراؤها من النص القرآني، مقارنة ببعض الروايات الإنجيلية، مع مناقشة الآثار الإيمانية والعقدية المترتبة على ذلك.

1. المسيح: الكلمة السواء والطبيعة الفريدة

يدعو القرآن إلى "كلمة سواء"، وهي كلمة الحق والعدل التي يجتمع عليها الناس. وفي سياق الخطاب لأهل الكتاب، فإن هذه الكلمة تتجسد في الاعتراف بالله الواحد وبتوحيده، ولكن القلب النابض لهذه الدعوة هو التوافق على حقيقة المسيح. فالمسيح هو "كلمة الله" التي ألقاها إلى مريم، وروح منه. يقول تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} [النساء: 171].

من خلال هذا التوصيف القرآني، تتبلور صورة فريدة للمسيح: فهو ليس إلهاً، وليس ملاكاً خالصاً، وليس بشراً عادياً. إنه كائن بشري المظهر، لكنه متلبس بروح ملائكية. هذه الهوية المركبة تفسر قدراته العجائبية، فالإنجيل – في هذه الرؤية – ليس merely نصاً مكتوباً، بل هو سيرة المسيح ذاتها: أفعاله، وأقواله، وصفاته الخارقة التي هي من طبيعته الروحية. إنه الصورة البشرية التي تحوي روحاً سماوية، مما يجعله حقيقة جامعة يمكن أن تكون أرضية للحوار.

2. حادثة الصلب: بين الوهم في فهم القرآن والحقيقة التاريخية المتصورة

تعتبر قضية صلب المسيح من أكثر القضايا إثارة للجدل بين الإسلام والمسيحية. يؤمن المسيحيون بموت المسيح على الصليب كحقيقة تاريخية وعقيدة فدائية، بينما ينفي فهم المسلمون أن القرآن ذلك نفياً قاطعاً في آية محكمة: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157].

لكن الرؤية المطروحة هنا تقدم تفسيراً دقيقاً لمفردتي "القتل" و"الصلب":

الصلب ليس مجرد وضع على خشبة: إنما المقصود بالصلب هنا هو "التعذيب" حتى الموت، وهو المعنى الذي تؤيده آية الحرابة في القرآن: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة: 33]. فالصلب عقوبة تعذيبية.

استحالة تعذيب المسيح وقتله: يستند النص إلى منطق استقصائي: كيف يمكن لمن يحيي الموتى ويزيل الآلام أن يُقتل أو يتألم؟ بحكم طبيعته المركبة (جسد بشري وروح )، فإن الأفعال الجسدية من جرح ووضع الشوك لا يمكن أن تسبب له الألم بالمعنى الإنساني المألوف، أو تؤدي إلى قتله. لقد حاولوا قتله وصلبه "فَعَلًا"، لكن "الأثر" – وهو الموت والتعذيب – لم يتحقق.

معنى "شُبِّهَ لَهُمْ": ليست المسألة استبدال شخص بآخر (كأن يصلبوا شبيهًا له)، كما ذهب بعض المفسرين، بل هي "لبس في نتيجة الفعل". لقد رأى الجميع المشهد وظنوا أنهم صلبوه وقتلوه، ولكن الحقيقة التي يؤكدها القرآن هي أن هذا لم يحصل. {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء: 157] – واليقين هنا يحتمل معنيين: إما أنهم هم لم يكونوا متيقنين من نجاحهم في قتله، أو أن القرآن يؤكد لنا يقيناً أنهم لم يقتلوه. والقرآن يؤكد الحالتين فهم فعلا تشككوا في حصول النتيجة سواء في الصلب أو القتل وبذات الوقت لم يقتلوه وإن حاولوا وقاموا فعلا بفعل القتل لأن روحا تحمل قوانين التحكم بالطبيعة لا يمكن لأحد أن يقتله..!!

3. ما بعد المحاولة: القيامة والرفع

بعد المحاولة الفاشلة للصلب، تؤكد هذه الرؤية أن المسيح "قام". ومحاولة اليهود نبش قبره وعدم العثور عليه دليل على أنه لم يكن ميتاً أساساً، بل قام بجسده. وعندما ظهر لتلاميذه بعد ذلك، شككوا في حقيقته حتى طلب منهم أن يجسوه ليتأكدوا من أنه ليس روحاً فقط. ثم ختم الله قصته الدنيوية برفعه إليه روحاً وجسداً، قال تعالى: {بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158]. فالمسيح حي لم يمت بالموت الذي نعرفه، وهو علم للساعة.

4. الإسلام والإيمان: إطار أوسع للخلاص

ينتقل النص إلى مناقشة الإطار العقدي الأوسع، فيفرق بين "الإسلام" و"الإيمان". فالإسلام بمعنى الخضوع والاستسلام لله هو أصل ديني واحد يشترك فيه جميع الأنبياء وأتباعهم. من آمن بمحمد عليه السلام فهو مسلم ومؤمن به، ومن آمن فقط بالمسيح عليه السلام فهو مسلم أيضا، لكن إيمانه مختلف.

ويوسع النص مفهوم الإسلام ليشمل ثلاثة مستويات:

إسلام الكون: ويشمل كل ما في السماوات والأرض لقوانين الله الفطرية. {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83].

إسلام الأجناس أو الأنواع: خضوع كل نوع من المخلوقات لسنن خاصة به.

إسلام الدين الأخلاقي: وهو الالتزام بالدين الواحد القائم على الأخلاق الإنسانية الموحدة.

في هذا الإطار الواسع، فإن رحمة الله ومحبته شاملة للجميع. وعقيدة "الخلاص" التي تحصر النجاة في فئة محددة – سواء عند بعض المسيحيين أو بعض المسلمين – هي في الحقيقة تضيّق لما وسعه الله. فمعظم الناس هم تحت ظل رحمة الله الواسعة.

5. تأليه البشر: إشكالية مشتركة

إن ظاهرة تأليه البشر ليست حكراً على المسيحيين تجاه المسيح، فكثير من المسلمين – في تاريخهم – غلا في تقدير بعض الشخصيات كالنبي محمد عليه السلام أو علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) إلى درجة التأليه. الإشكالية الحقيقية، حسب هذه الرؤية، ليست في استخدام لقب "رب" كما استخدم يوسف عليه السلام هذه الكلمة مع صاحبي السجن: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42] – بل الإشكالية تكمن في "التأليه" و"العبادة" من دون الله، وادعاء البنوة الحرفية لله.
تقدم هذه الرؤية المستقرأة من القرآن والأناجيل تفسيراً متكاملاً لشخصية المسيح وحادثة الصلب، يجمع بين الإقرار بخصوصية طبيعته كنبي وكلمة الله وروح منه، وبين نفي قدرة البشر على إيذائه أو قتله بحكم هذه الطبيعة. كما تفتح الباب لفهم أوسع لمفهومي الإسلام والخلاص، يقوم على شمولية رحمة الله ووحدانية الدين في جوهره الأخلاقي. هذه الرؤية لا تدعي الحسم النهائي، بل تترك الباب مفتوحاً للاجتهاد، مؤكدة على أن "الكلمة السواء" تظل هي المنطلق الأصح للحوار البناء بين الأديان، بعيداً عن التأجيج الشيطاني لنار الخلاف العقائدي.

التعليقات:

لا توجد تعليقات بعد.