المسيح: الكلمة السواء وتحولات الوعي البشري من التشخيص إلى التجريد

المسيح: الكلمة السواء وتحولات الوعي البشري من التشخيص إلى التجريد

21-09-2025

المسيح: الكلمة السواء وتحولات الوعي البشري من التشخيص إلى التجريد

المسيح: الكلمة السواء وتحولات الوعي البشري من التشخيص إلى التجريد
لطالما كان الوجود الإنساني محكومًا بتفاعلاته مع ما يفوق إدراكه الحسي، فكانت الرسالات السماوية تجيء لتشكل جسرًا معرفيًا يربط بين عالم الغيب وعالم الشهادة. وفي هذا السياق، يطرح مفهوم "الأبعاد السبعة" نفسه ليس كقضية فيزيائية أو هندسية، بل كوصفة تفاعلية عميقة، تؤسس لفهم جديد لجوهر العلاقة بين الإنسان وخالقه. وتعد قصة المسيح، الكلمة السواء، نموذجًا أصيلاً لتلك التحولات الفكرية والوجودية التي مر بها الإنسان، لا سيما التحول من عصر التشخيص إلى عصر التجريد.

على مر العصور، أرسل الله رسله بما يتناسب مع طبائع البشر وواقع حالهم وثقافاتهم. وقد كان الاعتراض المشترك بين الأمم هو: "أبعث الله بشراً رسولاً". هذا الاعتراض، الذي ورد في مواضع مختلفة من القرآن الكريم، لم يكن مجرد حجة عابرة، بل كان يعكس عجزًا عقليًا عن تقبل فكرة التجريد. فكانت الأمم القديمة تتوقع أن يأتيها الإله بصورة ملموسة، بملائكة محسوسين، لأن إدراكها كان ما يزال محصورًا في عالم التشخيص. لقد رأوا "البينات" التي جاء بها الرسل السابقون كبصائر محسوسة، لكنهم ظلوا يطالبون بما هو خارج عن المألوف لديهم، غافلين عن أن الله قد أراد لهم الانتقال بوعيهم من عالم المادة إلى عالم الفكر ومن عالم التشخيص إلى عالم التجريد.
مع عهد الرسول محمد، انتقل الإنسان إلى مرحلة جديدة من التطور العقلي، مرحلة أصبح فيها قادرًا على تقبل فكرة التجريد والابتعاد الكلي عن التشخيص. وفي هذا السياق، جاءت قصة المسيح كنموذج فريد ومحوري لهذا التحول. فقد كان اصطفاء الله للأنبياء فرديًا وجماعيًا، ولكنه في قصة المسيح بلغ ذروته بالانتقال إلى امرأة: مريم. هذا الاصطفاء المتميز لمريم، الذي تحدثت عنه آيات سورة آل عمران، لم يكن مجرد تكريم شخصي، بل كان تأسيساً لحدث كوني عظيم. فعندما تقبلها الله وأنبتها نباتًا حسنًا، كانت الملائكة تأتيها برزقها من السماء، مما يؤكد على خصوصية مكانتها وصلتها بالعالم العلوي.

ماهية المسيح: جدلية الروح الملائكية والصورة البشرية
إن جوهر فلسفة المسيح، كما يطرحها هذا الفهم، يكمن في التفريق بين هويتين متداخلتين: "عيسى" و**"المسيح"**. فالأول يشير إلى الصورة البشرية، والآخر إلى الروح الملائكية. وهذه الدلالة المزدوجة هي التي تحل المعضلة الوجودية المتعلقة بطبيعة المسيح، والتي وقع فيها الكثيرون بين إفراط وتفريط. فالقرآن الكريم، في استخدامه الدقيق للمصطلحين، يكشف عن هذه الحقيقة: فعندما يتكلم الله عن المسيح، فإنه يشير إلى جانبه الروحي الذي وهبه لمريم، وهو من "عالم الأمر" وليس من " عالم الخلق". وعندما يتكلم عن عيسى، فإنه يتحدث عن الصورة البشرية، الصورة البشرية.
وهذا ما يفسر رفض النص لفكرة أن المسيح هو الله أو ابن الله. فالنص يؤكد أن مقولة المسيحيين بأن "الأب هو الله" هي غلو وتطرف، ناتجة عن عدم إدراكهم لحقيقة أن المسيح كان يتحدث عن الروح العظيم الذي وهبه الله لمريم، لا عن الله ذاته. هذه الروح هي التي منحته الخصائص الخارقة التي لم تُعطَ لأي نبي آخر.
فلسفة الآيات (المعجزات): تجليات الروح الملائكية
إن الآيات (المعجزات) التي أتى بها المسيح لا ينبغي أن تُفهم على أنها دليل على ألوهيته، بل هي تجليات مباشرة لكونه "روحًا " من عالم الأمر. فالمسيح هو النبي الوحيد الذي كانت معجزاته من صفاته أو من ذاته. وهذا يختلف عن معجزات الأنبياء الآخرين التي كانت من خارجهم، بتدخل رباني مباشر. فالمسيح، كما ورد في النص، كان "يخلق"، و"يحيي الموتى"، و"يبرئ الأكمه والأبرص"، و"يعلم الأرزاق وما تدخرون في بيوتكم". هذه الأفعال التي كان الناس يتوقعونها من الله وحده، لم يدركوا أنها لا تنبع من طبيعته البشرية (عيسى)، بل من روحه (المسيح) التي كانت بكلمة الله.
إن هذا التحليل يحل إشكالية التساؤل حول كيف يمكن لبشر أن يقوم بأفعال ربانية. فالجواب يكمن في أن الجسد البشري للمسيح (عيسى) كان وعاءً لروح (المسيح)، وهذه الروح هي التي كانت تقوم بتلك الأفعال، بإذن الله. وهذا الفهم يعيد الأمور إلى نصابها، ويبرهن أن المسيح لم يكن إلهًا ولا ابن إله، بل كان روحًا فريدة من نوعها، تجسدت في صورة بشرية لتؤدي دورًا كونيًا في مسيرة الوعي الإنساني.
تفكيك التشخيص والتوجه نحو التجريد
إن مسيرة الأديان، كما يراها النص، هي مسيرة متواصلة نحو التجريد والابتعاد عن التشخيص. وهذا ما يفسر التشابه بين خلق آدم وخلق المسيح، ان النص يوضح أن آدم وعيسى خُلقا من تراب، بينما المسيح "كلمة" الله، روحًا كامل. فآدم يمثل الصورة البشرية والنفس الإنسانية، بينما المسيح يمثل الصورة البشرية والروح. هذا التمايز يبرز أهمية المسيح كجسر بين العالمين، عالم البشر وعالم الأمر.
وعندما كان المسيح يتحدث عن "أبي الذي في السماء"، كان يشير إلى مصدر الروح التي فيه، وليس إلى أن الله هو أبوه. فالمسيحيون غلوا في فهمهم لهذه العبارة، وحولوها من دلالتها الروحية العميقة، مما أدى إلى عقيدة التجسد واللاهوت والثالوث.
إن هذه المعضلة الفكرية لم تكن جديدة، بل هي امتداد لعدم القدرة على تقبل التجريد، فبدلاً من فهم الروح التي تكون المسيح ككيان فريد، لجأوا إلى تشخيصها في صورة إله أو ابن إله، مما أوقعهم في فخ التشخيص الذي حاول الدين التحرر منه.
الخلاصة: المسيح كنموذج للتحول الوجودي
إن فهم طبيعة المسيح على أنها "كلمة سواء"، أي كلمة من الله تجسدت في صورة بشرية تحمل روحًا من عالم الأمر، يقدم حلًا فلسفيًا عميقًا للجدل الديني. فالمسيح ليس مجرد نبي أو رسول، بل هو نموذج فريد يمثل نقطة تحول في تاريخ الوعي الإنساني، من التمسك بالتشخيص المادي إلى التوجه نحو التجريد الروحي وبالنتيجة يمثل المسيح النموذج الأسمى على مستوى الإنسانية والتي ستصله في نهاية المطاف وتحقق كل ما كان عليه هذا النموذج من رقي وقدرات وطبيعة وصفات قبل ان تحقق معراجها إلى المقام المحمود.

إن هذه النظرة الفلسفية لطبيعة المسيح، التي تفصل بدقة بين عيسى (الجسد) والمسيح (الروح)، لا تلغي مكانته العظيمة، بل تؤكد على تفردها. فآياته ليست دليلاً على ألوهيته، بل هي برهان على أن الروح التي فيه قادرة على اختراق القوانين الطبيعية، بإذن الله. وهذا الفهم يحرر العقل من قيود التشخيص، ويدعوه إلى التأمل في جوهر العلاقة بين الإنسان والروح والجسد، وفي المدى الذي يمكن أن يصل إليه الوعي والرقي الإنساني عندما يتصل بالعالم العلوي.
وفي نهاية المطاف، فإن هذا الفهم يتماشى مع المنهج القرآني الذي يدعو إلى التفكر والتدبر، وإلى تجاوز الموروثات الفكرية التي لا تنسجم مع العقل والمنطق، ويثبت أن المسيح، كلمة الله، هو حقًا الكلمة السواء التي جاءت لتكمل مسيرة الأنبياء، وتضيء للإنسانية طريقها نحو التجريد والكمال.
هاشم نصار 2011

التعليقات:

لا توجد تعليقات بعد.